منافع الكتاب

أعزُّ مكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ      وخيرُ جَلِيسٍ في الأنامِ كتابُ

   أراد المتنبي، شاعر العرب الأكبر، في الشطر الأول من هذا البيت الحكيم، أن يقول، إِنّ خير مكان، يجد المرء فيه لذّة ومُتعة، ويحسّ فيه كأنّه صاحب مجد وعلوّ همّة، هو ظهر حصان يمتطيه. وهذا القول، الصادر عن شاعر فارس، لَقولٌ صحيحٌ مستند إلى الخبرة. فكلّ من اعتاد ركوب الأصائل من الخيل، يوافق على ما ورد في بيت الشاعر من معانٍ، فالجواد، إذا امتطاه الرجل، شعر بزهوّ ونشوةٍ لا تعادلها نشوة الخمر المعتّق. وهو، عدا ذلك، واسطة للنزهة والرياضة والفروسيَّة، والتمويه عن متاعب الحياة، ومُعين أمين في ساحات الغزو واحترام القتال، يضاعف عزم المقاتل وقوَّته ويغريه بالنصر، فلا يهاب ولا يتراجع، ويهون لديه الموت فلا يبالي به.

   ومجمل معنى الشطر الثاني أنّ أحسن جليس، أي رفيق، يجلس بقربك، يؤانسك ويسلِّيك في خضمّ هذه الحياة الزاخرة بالمشاكل والهموم، هو الكتاب. وهو معنى لا مراءَ في صحّته؛ فإنّ خير صديق، في نظرنا، هو رفيق وفيٌّ صموتٌ كتوم للأسرار، لا يفشيها، مواسٍ في ساعات الضيق، والكرب، لا يماري فيها؛ ومن أجدر من الكتاب وأقرب منه، إلى هذه الصفات والمآثر المذكورة؟

   كم من صديق لنا انقلب علينا وأباح أسرارنا، وقلب لنا ظهر المجنّ، وتنكَّر لنا وآذانا! وكم من مقرّب إلينا أطلق لمقولِهِ عنان القدح والشتم، واغتابنا ونمَّ علينا ووشى بنا، زورًا، خالقًا لنا الأعداء، على الرغم من تظاهره بمحبّتنا والإخلاص لنا! وكم من رفيق، لازمنا لزوم ظلّنا في ساعات الرخاء، ولما اشتدّ علينا الزمان وقست الخطوب، أدار ظهره لنا وانقلب علينا وهجرنا، بدون هفوة بدرت منّا، أو بسبب غلطة غير متعمّدة ولا مقصودة، وتركنا وحدنا حيارى، غير آبهٍ بما تُحدثه فعلته من ألم في نفوسنا، وتخديش في سريرته!

   أمّا الكتاب، فهل بوسعه أن يصنع بنا ما يمكن أن يصنعه صاحبٌ أو خليل؟ لا وايْمُ الحقّ! أنّه نِعْمَ الصديق الأنيس! ونِعْمَ الجليس المسلّي والرفيق الصالح! يُسْدي إلينا النصح، ساعةَ نحتاجه، ويزيل عنّا الوحشة إذا اكفهرّت الآفاق أمامنا، وتخلّى عنّا الناصحون. إنّه المعلّم الخاصّ، يأتي إلى منازلنا وخلواتنا يعلّمنا ويزيد معارفنا بدون منَّة أو تقليد جميل أو طلب أجْر، كما يفعل سائر المعلّمين. إنّه نِعْمَ الأخ الرفيق في ساعة الحزن، ونِعْمَ المؤاسي في ساعة الضجر والعزلة! إنه خادم أمين، ينقلنا من ظلمة الجهل إلى نور العلم والإدراك. هو خفيف الظلّ والروح، لا نستثقل رفقته أينما ارتحلنا. وفي أيّ مكان حللنا وأي طرف من أطراف البلاد يمَّمنا. لا يفشي أسرارنا ولا يوقف أعداءَنا على عوراتنا، ولا يخوننا، إذا انتابتنا الكوارث وحلَّت بنا الشرور! إنّه لنِعْمَ الجليس الأنيس الذي ينطبق عليه قول الشاعر الآخر:

 نعم الأنيسُ، إذا خلوتَ، كتاب        تلهو به إنْ ملَّك الأصحابُ

لا مفشيًا سرًّا، إذا استودعتــــه        وتـُـفاد منه حكمة وصــواب

                                         يوسف س. نويهض